الحمدُ للهِ
الذي خلقَ الإنسانَ علَّمهُ البَيان، وأنزَلَ القُرآنَ بلِسانٍ عَربيٍّ مُبين،
وجَعلَه عَربيّاً لقَومٍ يَعقِلون، إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون، وأشهدُ
أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُه ورسولُه،
أفصحُ مَن نطقَ العربيّة، فقال:" إنَّ مِن الشّعرِ لحِكمة، وإنَّ مِن
البَيان لسِحْرا"، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عليه تَسليماً كثيرًا، أمّا
بعد:
فإنَّ
العربيةَ تسبقُ أهلَها وتتقدمهم في ركب الحياة المعاصرة، وتدعوهم إلى التوحد
عليها، وعلى ما ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً، ألا وهو القرآن الكريم وعلومه، وها هي
تتمدد في المعمورة وتنتشر، حتى كادت أو وصلت إلى كلّ أصقاع الأرض، وتزداد تألقاً
في يومها العالمي الموافق للثامن عشر من كانون أول (ديسمبر)، رغم مواجهتها
لحرب ضروس من أهلها قبل أعدائها.
إذ امتازت العَربيّةُ بأهمِيّةٍ كَبيرةٍ بينَ اللّغات العالمية، كَيفَ لا وَهِيَ- حسب الإحصاءات في مواقع التواصل الاجتماعي، ومراكز تعليمها لغير الناطقين بها بأنها من أكثرُ اللّغاتِ امتِداداً وانتشارًا في القَرن الحالي؛ نظراً لسرعة انتشار الإسلام؟ كما أنها تُعدُّ مِن أقدمِ اللّغاتِ على وجْهِ الأرض؛ إذْ تمتدُّ جذورُ العربيةِ إلى ما قبلَ الإسلام بقرونٍ عديدة.
وللعربيةِ أهميّةٌ لا
تُوازيها أيُّ لُغةٍ في العالم، فهي مِن أَقدمِ اللغاتِ التي ما زالت تتمتّعُ
بخَصائِصها اللُّغويّة والإبداعيّة، في التّعبيرِ عَن مداركِ العِلمِ
المخْتَلفة، وهي اللغةُ الوحيدةُ التي يستطيعُ المتعلمُ فيها أنْ يقرأَ
تُراثاً قديماً يزيدُ عمرُه على (16) ستةَ عشرَ قرنًا، وما كان للعربيّةِ أنْ تحظى
بهذه المزِيَّةِ لولا نُزولُ القُرآنِ الكَريمِ فيها.
وقد بلغَت
العَربيةُ في الفَصاحةِ والبلاغةِ مَبلَغًا لم تصِلْه لُغةٌ قَبلَها ولا بَعدَها؛
ممّا جعلّها مُؤهَلةً لحَملِ أعظمِ كتابٍ في الكون، فأنزلَ اللهُ -سبحانه
وتعالى- القرآنَ الكريم، وكانتْ رِسالتُه باللُّغة
العَربيةِ للنّاسِ كافّةً؛ لحِكمةٍ أرادَها اللهُ، واللهُ يفعلُ ما يشاء، وهو
أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالته، فارتقتِ العربيةُ بالإسلام، وسَمتْ إلى آفاق جديدةٍ في
العلومِ اللُّغَويةِ والنّحويّةِ والبَلاغِيّة، والفُنونِ الأدَبيَّة، لا عَهدَ
للعربّيةِ بها مِن قَبلُ، فأضفى الإسلامُ عليها ميزاتٍ كثيرةً لم تكنْ لها مِن قبلُ.
وبنُزولِ
القرآنِ الكريم بلسانٍ عربيٍّ مبين، غَدتِ العربيةُ أشرفَ اللّغاتِ، وأعلاها
رتبةً؛ كما شرَّفها اللهُ -عزَّ وجلَّ- بأنْ كانَ خاتمُ النَّبيينِ للنّاس أجمعين
عَربيّاً، صلى الله عليه وسلَّم، وما كان لهذه اللغةِ أنْ تأخذَ هذه المكانةَ
العظيمةَ لولا هذا الشَّـرفُ العظيم، وهو ارتباطُها بالقرآنِ الكريمِ والسُّنةِ
النبويّة.
وقد عدَّ المسْلمونَ
اللغةَ العربيةَ لُغةً لحضارتهم وَثقافَتِهم، فاستطاعتِ العربيةُ أنْ تكونَ لغةَ
الحياةِ في العِلمِ والطبِّ والهَندَسة، والسّياسة والتِّجارة، والتّشريعِ
والقانون، والفَلسفة والمنطِق، والفَنِّ والأدب، يقول المستشرق
ألفريد غيوم عن العربية:" ويسهُلُ على المرءِ أنْ يُدركَ مدى استيعابِ
اللّغةِ العَربيةِ واتّساعِها للتّعبيرِ عَن جميعِ المُصطَلحاتِ العِلميةِ للعالمِ
القَديمِ بِكُلِّ يُسْرٍ وسُهولة".
وكان اختيارُ
اللغةِ العربيةِ لحكمةٍ أرادَها الله- سبحانه وتعالى- تتجلى في رُقِيِّ هذه اللغةِ
وبيانها، فقال -عزَّ وجلَّ: (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) [الزمر:28]، فلا اختلال فيه بأيِّ وَجْهٍ كان، سواءً أكانَ
من جانبِ الأصواتِ وعددِ حُروفِها، أم مِن جِهة تَوَزُّعِها وشمولها للجِهازِ
الصَّوتي مِن بدايته حتى مُنتَهاه، أم في عَددِ الجذورِ الذي لا يوازيها عددًا في
أيةِ لُغةٍ أُخرى، أو في التَّعبير والإيجازِ، والدِّقة التي شهدَ به غيرُ العَربِ
مِن المُستَشرِقين.
ويُبَيِّنُ
وَهبةُ الزُّحَيلي أسبابَ حُرمةِ ترجمة القرأنِ الكريم وامتناعه، حيثُ يقول:"
يحرمُ ولا يَصِحُّ شَرعًا ترجمةُ نَظمِ القرآن الكريم؛ بسببِ اختلافِ طبيعةِ
اللُّغةِ العَربيةِ التي نَزلَ بها القرآنُ عنْ سائرِ اللُّغاتِ الأُخرى، فَفي
العَربيّةِ المجازُ والاستعارةُ والكنايةُ، والتشبيهُ والصّورُ الفَنيّةُ التي لا
يُمكِنُ صَبّها بألفاظِها في قَوالبِ لُغةٍ أُخرى، ولو حدَث ذلك لفَسدَ المعنى،
واخْتلَّ التَّركيب، وحَدثتِ العَجائبُ في فَهمِ المعاني والأحكام، وذَهبتْ
قُدسِيّةُ القُرآن، وزالتْ عَظَمتُه ورَوعتُه، وتَبَدَّدتْ بلاغتُه وفَصاحتُه التي
هي سببُ إعجازِه".
كما أنَّ اللغةَ العربيةَ أوْسَعُ اللُّغاتِ وأكثَرُها ألفاظاً؛ حيثُ يُعَدُّ مُعجَمُ العَربيةِ أغنى معاجمِ اللُّغاتِ عالمياً في المفرداتِ والمرادفات؛ وتضُمُّ المعاجمُ العربيةُ الكبيرة ملايينَ المفردات، في لُغةٍ اشتقاقيةٍ تمتدُّ وتتوسّعُ في كلِّ مادةٍ لُغويّة، ففي مُعجَمِ لسانِ العَربِ لابن منظور ما يزيدُ على ثمانين ألفَ مادّةٍ لُغوية، وهو مُعجم أُلِّف في القرنِ الثامن الهجري،... ونظراً لتمام معجَمِ العربيّةِ اللُّغويّ، وكمال عِلْمَيِّ الصَّرفِ والنَّحو فيها، فإنّها تُعدُّ أمَّ مجموعتها بينَ اللغات، والتي تُعرَف عندَ المُستشرقين باللغاتِ السّامية.
وللعربيةِ
أهميةٌ خاصَّة للمُسلم؛ لأنَّها لغةُ القرآنِ الكريم، والحديثِ النّبويِّ
الشّريف، وهما مصدرا التشريع في الإسلام: فبالشهادتَينِ يَبدأُ المسلمُ أوّلَ
نُطقِه لكَلماتِ اللّغةِ العَربية، ولا يَتِمُّ لمسْلمٍ إسلامٌ مِن غَيرِ صَلاة،
ولا تُعدُّ صلاةُ المسلمِ صحيحةً دونَ إتقانِ الفاتحة، وبعضِ الأذكارِ
والتَّسابيحِ باللُّغةِ العَربيَّة، وهو ما يجعلُ تعلمَ العربيةِ على وجه الضرورة.
وبقَدْرِ ما
يفقَهُ المسلمُ اللغةَ العَربيةَ بقَدْرِ ما يَصلُ إلى فَهمِ مقصودِ الله تعالى في
القرآن الكريم، ومَقصودِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في السُّنة، فيعبد اللهَ
على بَصيرةٍ وبيِّنة، بعيداً عن الجَهْلِ والابتِداع، (أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ) [الملك:٢٢].
كما أنَّ
المسلمَ يستطيعُ بِوَساطَة اللغةِ العربيّةِ تَدَبُّرَ هذا القرآنِ
العظيم، والتَّفكُّرَ في آياته؛ تَطْبيقاً لأمرِ اللهِ تعالى بالأمر بتدبُّرِ
القرآنِ والتَّفكُّرِ في آياته؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا}[محمد: ٢٤]. فليسَ مِن شَيءٍ أنفعُ
للعَبدِ في مَعاشهِ ومَعادِه، وأقربُ إلى نَجاته، مِن تدبُّرِ القُرآن، وإطالةِ
التأمُّلِ فيه، وجَمْعِ الفِكرِ على معاني آياته؛ فإنّها تُطلِعُ العَبدَ على
مَعالمِ الخَير والشَّر، ومفاتيحِ كُنوزِ السَّعادة، وَيزداد بالتدبُّرِ الإيمانُ
والتقوى، وهو مقصد عظيم من مقاصد القرآن الكريم.
ويرى الباحثُ
أنَّ هذا الاختيار للغة العربية – كما تشير له الآية الكريمة السابقة- كان للوصول
إلى جوهرة هذا الكتاب وسرِّ نُزوله، وهو التقوى، ولا تكونُ التقوى إلا
بالعلم بتفسير القرآن الكريم وفهمه، وإدراك معانيه وأحكامه وحكمه، والدروس والعبر
التي لا تتوقف فيه من خلال هذه اللغة التي نزل بها، كيف لا وهي تتجددُ وتتوسعُ
باستمرار، مع توسُّعِ معاني القُرآنِ ودِلالاتِه، ومع كلِّ تطوّرٍ في الحاضر
والمستقبل وتجددهما...
أمّا
ترجمةُ القرآنِ الكريم فليستْ تُعَدُّ إلا تفسيرًا وشرحاً لمفرَداته وألفاظه،
وتختلفُ التَّرجمةُ مِن شَخصٍ لآخرَ حَسبَ ثَقافة المترجم، ومُستوى إحاطته بعلومِ
العَربيّة، ووجوهِ إعجازِ القرآن الكريم، وآليةِ نَقلِها إلى اللّغة التي يُفسر
بها، ولا يُمكنُ بحالٍ أنْ يحصُلَ تَدَبّرٌ حقيقيٌّ بالتّرجمةِ؛ بسبب عَجزِها عَن
نقلِ أسرارِ الإعجازِ والبيان.
وقد ظهرَتْ
ترجماتٌ عديدةُ باللّغة الإنجليزيةِ مثلاً، أبرزتْ جميعُها تقصيرَ الترجمةِ
وضَعفها، بل رفَضها كثيرٌ من العُلماء، وعدّوها مِن قَبيل التّفسير والمعنى؛ نظراً
لتَقصير غَيرِ العَربيّة عن البَيانِ الذي اختُصَّتْ به العربيّةُ دونَ سائرِ
الَلغات الأخرى.
ونصَّت فَتوى
اللَّجنةِ الدائمةِ للبُحوثِ العِلميَّةِ والإفتاءِ في المملكةِ العَربيةِ
السّعوديّة على أنَّ:"ترجمةَ معاني القُرآن تفسيرًا له، ليست قرآنًا
بإجماع أهلِ العلم ولا في حُكمِه، وعلى هذا لا يَجوزُ القراءةُ بها في
الصّلاة، لا تَرجمة الفاتحةِ وتفسيرِها، ولا ترجمةُ غَيرِ الفاتحة، ويجبُ أنْ
يُتعلَّمَ مِنَ القرآنِ باللُّغة العربيةِ ما لا بدَّ منه في عبادةِ الله؛
كالفاتحة، ...".
ويؤيد هذا
الرأيَ ويصوِّبه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ قائلا:" فأمّا القرآنُ فلا يقرؤهُ
بغَيرِ العربيةِ، سواء قَدرَ عليها أو لم يقدِرْ عند الجمهورِ، وهو الصّوابُ
الذي لا رَيبَ فيه، بل قالَ غيرُ واحدٍ: إنّه يمتَنِعُ أن يُتَرجِمَ سورةً،
أو ما يقومُ به الإعجاز".
وبناء على ما
سبقَ مكانةِ اللغة العربية بالنسبة للقرآن الكريم، وعدم جواز ترجمته، فقدْ برزَتْ
قضيةُ حُكمِ تَعَلُّمِ العَربيّة للمُسلمِ، وما يأمرُه اللهُ به، وفي هذا السياق
نجدُ أنَّ قضيةَ تعلُّمِ العربيةِ قد جاءَت مبكرةً في الإسلام، فهذا أميرُ
المؤمنين عمرُ بنُ الخطابِ – رضي الله عنه- يدعو إلى تعلم العربية؛ لأنها من الدين
الإسلامي، يقول:"تعلموا العربية فإنها من دينكم".
وفي هذا يقولُ الأمامُ الشافعيُّ
- رحمه الله - في كتابه الرِّسالة: إنَّ على" كلِّ مُسلمٍ أنْ يتعلّمَ مِن لسانِ
العربِ ما بَلَغه جَهدُه، حتى يشهدَ به: أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمَّداً
عبدُه ورسولُه، ويتلوَ به كتابَ الله، وينْطقَ بالذِّكرِ فيما افْتُرِضَ عليه مِن
التكبير, وأُمِرَ به مِن التَّسْبيحِ والتّشهُّدِ وغير ذلك، وما ازدادَ مِن العلمِ
الذي جَعله اللهُ لسانَ مَنْ خَتَمَ به نُبَوَّتَه، وأنزلَ به آخرَ كتبهِ كان
خَيراً له، كما عَليه أنْ يتعلمَ الصَّلاةَ والذِّكرَ فيها...".
والقاعدةُ
الشَّرعيةُ تقول: "ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلا
به فهو واجبٌ"، ولما كانت قراءةُ القرآنِ واجبةً، والتّعرُّفُ على أحاديث الرَّسولِ -صلى
الله عليه وسلم- واجباً،
وكان لا يمكنُ التَّوصل إليها إلا باللُّغةِ العربية- كانت العَربيةُ لها
درجةُ الوُجوبِ نفسُها التي تجبُ لكتابِ الله تعالى وأحاديثِ الرَّسول -صلى الله
عليه وسلم-، ومِن
هنا كانت اللغةُ العربية تمثلُ للأمّةِ الإسلاميةِ هُوَيَّتَها، وحياتَها،
وعُمْقها الإيماني والرّوحي، وارتباطها التاريخي.
ويقول شيخ
الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله – في الفتاوى: "ومعلوم أنَّ
تَعَلُّمَ العَربيةِ وتعليمَ العَربيةِ فرضٌ على الكفاية"، ويرى
في كتابه "اقتضاءُ الصّراطِ المستقيمِ في مخالَفةِ أصحابِ الجحيم" أنَّ:
"اللسانَ العربيَّ شعارُ الإسلامِ وأهلِه، واللغاتِ مِن أعظمِ شعائر الأممِ
التي بها يتميزون".
كما يُعدُّ
اللسانُ العربيُّ مِن أفضلِ السُّبلِ لمعرِفةِ شَخصيةِ الأمّةِ المسلمةِ
وخَصائِصها، فهو الأداةُ التي سجَّلتْ منذُ بدءِ الدعوةِ الإسلامية في مكةَ أفكارَ
المسلمينَ وأحاسيسَهم. وكانت وما زالت حلقَةَ الوَصلِ بين الماضي والحاضرِ
والمستقبل، وسايَرتْ عَبرَ العُصورِ شَخصيّةَ الأمّةِ الإسلاميّة
وتاريخَها، فاللغةُ العربيّةُ تَقوى إذا قَوِيَت الأمّةُ الإسلامية، وتَضْعُفُ
بضَعْفها.
وبناء على هذه الأهميةِ الكُبرى للغةِ العربيةِ فإنّ السَّعيَ لِتَعَلُّمِها يُعَدُّ واجباً وعبادةً يتقرَّبُ بها إلى الله تعالى؛ لأنَّها وسيلةٌ إلى غاية عُظمى، هي عِلةُ الحياةِ في الكونِ، وسرُّ الوجودِ بها؛ يقول سبحانه وتعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات:٥٦].
قال الثعالبي
في "فقه اللغة" :"من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً، ومن أحب
الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحبَّ العربية، ومن أحب العربية عُني بها،
وثابر عليها، وصَرف هِمته إليها،... والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم،
ومفتاح التفقه في الدين، ...". ويؤكد ابن النقيب - رحمه
الله- في مقدمة تفسيره على ضرورة تعلم العربية للوقوف على أحكام القرآن الكريم
وفضله، فيقول: « وإنّما يَعرِفُ فضْلَ القرآن مَنْ عرفَ كلامَ العرب، فعرفَ علمَ
اللغةِ وعلمَ العربيّةِ، وعلمَ البيان،... ».
وأمّا عَن
عناية الصَّحابة -رضيَ الله عنهم- واهتمامهم بالعربيّة، فقد كانَ عليُّ بن أبي
طالب، ابنُ عمِّ رسولِ الله وزَوجِ ابنتِه فاطِمةَ الزَّهراء – رضي الله عنهما-
يضـربُ الحَسنَ والحُسينَ على اللَّحن، وكذلك فَعلَ ابنُ عُمَرَ وابنُ عبّاسٍ– رضي
الله عنهم-.
لقد عرفَ
المسلمون الأوائل منزلة العربية بالنسبة للقرآن الكريم، فأقبلوا عليها ودافعوا
عنها، واعتبروا أنَّ كلَّ عدوانٍ على القرآنِ هو عدوانٌ على العربية، وأنَّ
النَّيلَ مِن العربيةِ هو نيلٌ مِنَ القرآن، فلولا القرآنُ الكريم لاندثرتِ
العربية، أو ضَعُفَتْ، وقلَّ المتكلمون بها. فالعربية ليست مُهمَّةً
للتَّخاطبِ فَقط، فذلك شأنٌ تشتركُ فيه جميعُ اللّغات، ولكنّ العربيةَ
هي شعيرةٌ تمارسُ وتُطلبُ بروح الفريضة، وهي بهذه الخصيصة تَميّزت عَن بقِيّةِ اللّغات.
وكثيرٌ مِن
الأئمةِ الذين خدموا العربيّة، وبحثوا فنونَها وتعمَّقوا في دُروسِها، ووَضعوا
الضَّوابطَ لها، وفاقَ بعضُهم العَربَ الخُلَّصَ في بعض فُنونها- كانوا في الأصلِ
مِن غَيرِ العرب؛ كالأخفش وسيبويهِ والفراءِ والكسائي، والجرجاني والفارسي وابن
جِنّي، ...
فانظر إلى الزَّمخشري صاحب الكشاف يعبّرُ عن عظيم حبه للعربية فيقول: «اللهَ أحمدُ أنْ جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغَضب للعَربية والعَصبِيّة، وأبى لي أنْ أنفردَ عن صَميم أنصارِهم وأنماز وأنضوي الى لفيفِ الشُّعوبية وأنحاز...».
وهذا الفارابي
صاحب كتاب ديوان الأدب، يرى أنَّ العربية هي لغة أهل الجنة، مُرجعاً هذا الرأي إلى
ما تميزتْ به العربية؛ إذ يقول: «هذا كلامُ أهْلِ الجنَّة، وهو المنزَّهُ مِن
بَينِ الألسنةِ عَن كُلِّ نَقيصَةٍ، والمعلّى مِن كُلّ خَسيسة...». ويبلغُ مِن عشق
الخوارزمي – وهو من علماء القرن الخامس الهجري- للعربيةِ مبلغًا جعله يقول:
«واللهِ لأَنْ أُهجى بالعربيةِ أَحبُّ اليَّ مِن أنْ أمدحَ بالفارسية».
ولذلكَ فإنّنا
في القرنِ الخامسَ عشرَ الهجري نأمل أنْ يبرزَ مِنَ المسلمينَ مَنْ يُشارُ لهم
بالبَنانِ في إتقانِ لغةِ القُرآن الكريم والتأليف فيها، وخِدمتها ونَشرها بطُرقٍ
مبتكرة وحديثة، تُناسبُ تطوّرَ العصرِ الذي نَعيشُ فيه.
وبهذه الرّوحِ
في طلبِ العربيّة، فإنَّ المستقبلَ للّغةِ العربيةِ وانتشارِها قادمٌ -بإذن
الله تعالى- في كلِّ أنحاءِ الأرض، فكما بشَّر المصطفى البشيرُ - صلى
الله عليه وسلَّم- في الحديثِ الصّحيحِ ببلوغِ هذا الدّينِ ما بلغَ الليلُ
والنَّهارُ، فإنَّ اللغةَ العربيةَ، وهي وعاءُ القرآنِ الكريم الذي تكفّلَ اللهُ
تعالى بحفظه، وبلوغه ما بلغَ الليلُ والنهار، ستبلغُ في انتشارِها ما بلغ الليلُ
والنَّهارُ بِعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذَليل.
وينبغي بأنَّ
نتيقَّن بأنَّ المستقبلَ هو للغةِ العربيةِ بينَ لغاتِ العالم، وأنَّ ما يتردّدُ
بينَ الفينةِ والأُخرى بأنَّ اللغةَ العربيةَ تسيرُ نحو الاضمحلالِ هو مَحضُ
افتراءٍ، بل هو مُؤشرٌ واضحٌ على عكسِ ما يقولُه أولئك المغرِضون الحاقِدون.
إنَّ البَونَ
الواسعَ بينَ هذه اللغةِ وغَيرِها مِن اللغاتِ الأُخرى، التي أخذتْ تضمحلُ أو
يقلُّ عددُ مُتكلميها أنَّ العربيةَ ترتبطُ بالقرآن الكريم، وهذا القرآن َجاءَ
للعالمينَ كافَّةً، وللكونِ أجمع، وعَليهِ فإنَّ اللَّغةَ العربيةَ ستَغْدو لغةً
كونيةً عالميةً...
وإننا لَعَلى
يقينٍ بأنَّ جميعَ المحاولاتِ التي ستقف في وَجهِ العربيةِ سَتبوءُ بالفَشل؛ لأنّ
اللَّغةَ العربيةَ قد نجحت في تجاوزِ أشدِ الضَّرباتِ وَحشِيّة، لو قُدِّرَ لأيِّ
لُغةٍ أنْ تُواجِهَها لما كانَ لها أيُّ أثرٍ على وجهِ الأرضِ إلى يومنا هذا.
إنَّ حاجةَ
البشريةِ اليومَ لهذه اللغةِ يزدادُ يومَا بعدَ يوم، بل إنه يزدادُ ساعةً بعدَ
ساعة؛ نظرًا لكثرةِ الإقبال على الدخول في الإسلام، وهذا يتطلبُ مِن أهلِ العربية
ومتعلميها، من المسلمين أن يجِدّوا السَّعيَ في تعليمِها لغَيرهم مِن إخوانهم
المسلمين الجُدُد، وفي تعريفِ غيرِ المسلمين بحسناتِ الإسلام وميزاته، وتجدُّدِه
وصَلاحِه للإنسانية حاضرًا ومستقبلا؛ لأنّه الدينُ الوحيدُ الذي يتوافقُ مع
الفطرةِ البشريّة، ويسعى لإسْعادِ الكَونِ وسَلامَته.
وآخر دعواهم
أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.